الحمد لله الذي هدانا للإسلام و منَّ علينا به ، وأخرجنا في خير أمة ، فنسأله التوفيق لما يحب ويرضى ، والحفظ مما يكره ويسخط

قال البربهاري - رحمه الله - في شرح السنة : الحمد لله الذي هدانا للإسلام و منَّ علينا به ، وأخرجنا في خير أمة ، فنسأله التوفيق لما يحب ويرضى ، والحفظ مما يكره ويسخط .
شرح الشيخ صالح الفوزان :: هذه خطبة الكتاب ، فبدأ بـ "الحمد لله" ، عملًا بالسنة ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمدُ الله ويثني عليه في كتاباته ومخاطباته ، وهكذا كان السلف الصالح وأهلُ العلم ، يبدؤون كتبَهم بـ "بسم الله الرحمن الرحيم" ، اقتداء بالكتاب العزيز ، وبـ "الحمد لله رب العالمين" اقتداءً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان إذا أراد أن يخطبَ أو يتكلم أو يُنبِّه على شيء ؛ يحمد الله ويثني عليه (1) ، ثم يبيِّنُ ما يريد بيانَهُ عليه الصلاة والسلام ، فالمؤلف نَهَجَ هذا المنهج مقتديًا بمن سلف وهو البَداءةُ بـ " الحمد لله " .
ومعنى "الحمد لله" أي: جميعُ المحامدِ لله عزَّ وجلَّ ، و"الحمد" : هو المدحُ والثناء على الممدوح. فالله جلَّ وعلا يُحمَدُ لذاته ويُحمَدُ لأسمائه وصفاته ، ويُحمَدُ سبحانه على أفعاله ، فله جميع أنواع الحمد ، لأن جميع النعم منه سبحانه ، وأما غيره فيُحْمَدُ على قدر ما يُسْدِي من الجميل ، ولكنَّ الحمدَ المطلَقَ الشاملَ هو لله عزَّ وجل ، فلا يجوز إلا لله ، كما في القرآن : الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة : 2-3] الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام : 1] الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [فاطر : 1]
أما أن تقول : "أشكرُ فلانًا" ، أو "أحمدُ فلانًا على كذا وكذا" ، بمعنى تخصيص الشيء الذي من أجله حمَدتَهُ أو شكرته عليه فلا بأس ، أمَّا أن تقول : "الحمد لفلان" فهذا لا يجوز إلا في حق الله سبحانه وتعالى .
و "الله" اسمٌ من أسمائه تعالى ، ومعناه : المألوه المعبود ، لأنَّ الألوهية معناها العبودية .
وهو اسمٌ لا يُطلق إلا على الله ، ولم يَتَسَمَّ به أحدٌ غيرَ الله أبدًا ، حتَّى الجبابرة والكفرة والملاحدة ما منهم أحدٌ سمَّى نفسه "الله" ، فرعون ما قال : "أنا الله" ، وإنما قال : " أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى" [النازعات : 24] ، فهذا اسمٌ خاصٌ بالله عزَّ وجلَّ .
و "رب العالمين" الربُّ معناه : المالك المتصرِّفُ ، و"العالمين" : جمعُ عالَم ، وهو جميع المخلوقات ، والله هو ربُّها وخالقها ومدبِّرُها ومعبودُها وإلَهُهَا . 
قوله : "الحمد لله الذي هدانا للإسلام" الإسلام أكبر نعمة ، قال تعالى : "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا" [المائدة: 3]. فبالإسلام تمَّت النعمة على المسلمين ، والله جلَّ وعلا يقول : "قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا " [يونس : 58] ، فضلُ الله : هو الإسلام ، والرحمة هي القرآن ، فليفرحوا بالإسلام وبالقرآن . 
وهذا فيه الاعتراف منك بأن الفضل لله في هدايتك للإسلام ، بإرشادك إليه ، وتثبيتك عليه ، هذا فضلٌ من الله ، لا بحولك ، ولا بقوَّتِك ، وإنما هو توفيقٌ من الله سبحانه وتعالى ، فهو الذي هداك ، ولذلك يقول أهلُ الجنة إذا دخلوا الجنة يوم القيامة : "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ" [الأعراف : 43] .
قوله : "ومَنَّ علينا به" الإسلام مِنِّةٌ من الله سبحانه وتعالى ، وإلا فالله لا يَجِبُ عليه شيءٌ لأحد ، وإنما هو يتفضل على عباده بالإسلام، وبالنعم ، وبالعافية ، وبالأرزاق . 
قوله : "وأخرجنا في خير أمة" أخذًا من قوله تعالى : " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" [آل عمران : 110] فقوله : "كنتم" هذا خطابٌ للمسلمين ، "خير أمة" أي خيرَ الأمم ، و"الأمَّة" المرادُ بها الجماعة ، " خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" تأمَّل قوله : "للناس" ، فخيرُ هذه الأمة لا يقتصر عليها ، وإنما يتعدَّى للناس في الدعوة والجهاد والتعليم والإرشاد ، لا يكفي أن يتعلم الإنسان ويعمل في نفسه ويترك الآخرين ، بل لا بد أن ينشر الدعوة ، وينشر العلم ، وينشر الخير ، ويدعو إلى الله ، ويأمر بالمعروف وينههى عن المنكر، فيكون عُضوًا عاملًا في مجتمع المسلمين ، فقوله : " أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" معناه : ما أُخرجوا لأنفسهم فقط ، وإنما أَخرجهم الله للناس .
قوله : "فنسأله التوفيق لما يحب ويرضى" الإنسان يسأل الله الثبات ، ولو كان يعرف الحق ، ويعمل به ، ويعتقده ، فلا يأمن أن يزيغ وأن يُفتَن ، بأن تأتي فتنٌ وتجتاحه ، ويضل عن سبيل الله ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : "يا مقلب القلوب ثبَّت قلبي على دينك" (2) ، وقال الخليل عليه الصلاة والسلام في دعائه : " وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ" [إبراهيم : 35 ، 36 ] ، خاف على نفسه ، وهكذا كلما قَوِيَ إيمانُ الإنسان بالله فإنه يخاف ولا يأمن الفتن ، ولا يُزَكِّي نفسَه ، بل يسأل اللهَ الثبات ، وحُسْنَ الخاتمة دائمًا وأبدًا ، ويخافُ من سُوْءِ الخاتمة ، ويخافُ من الفتن ، ويخاف من الزيغ والضلال ، ومن دعاة السوء.
قوله : "والحفظَ مما يكرهُ ويَسْخَط" فيوفقنا لما يحب ويرضى من الأعمال والأقوال والاعتقادات ، ويجنبنا ما يُسخطه من الأقوال والأعمال والاعتقادات ، فهو الهادي سبحانه وتعالى ، وهو الموفِّقُ ، وهو الدالُّ والمُرْشِد. [إتحاف القاري بالتعليقات على شرح السنة للإمام البربهاري]

(1) كما في قصة ضِماد الأزدي رضي الله عنه ، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استفتح كلامه بقوله : " إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدًا عبده ورسوله ، أما بعدُ" رواه مسلم في صحيحه (2/593 رقم 868) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه .
(2) رواه الإمام أحمد في المسند (4/182) ، وابن ماجة في سننه (رقم 199) ، والنسائي في السنن الكبرى (رقم 7738) ، وابن حبان في صحيحه (رقم 934) ، والحاكم في المستدرك على الصحيحين (1/525) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي ، وقال البوصيري في مصباح الزُّجَاجة (1/27) : "إسناده صحيح".